مساحة للنموّ
السبت، ٧ نوفمبر ٢٠٢٠
تأملات في الوعي
هيثم من فريق مانا باي أس
كثيراً ما نسمع عبارة "تكوين مساحة للنفس" في عالم اليوغا، عند الحديث عن ارتباط هذه المساحة بعالمنا الداخلي، وبسلوكنا مع أنفسنا أولاً، قبل أن تتشكّل وتنعكس على عالمنا الخارجي.
والحقيقة أن "تكوين مساحة للنفس" هو موضوع عميق ومتّصل بشكل مباشر وغير مباشر بكل سلوكياتنا وأفكارنا وأحكامنا وخطابنا مع أنفسنا، سواءً بوعينا أو لا وعينا. وإذا أيقنّا أنّ العالم الخارجي هو انعكاسٌ لعالمنا الداخلي، فإننا ندرك أهمية المساحة التي بإمكاننا أن نكوّنها في أنفسنا، لكي تتجلّى في كل تفاصيل حياتنا واتصالنا مع عالمنا الخارجي.
في مقاربتنا لهذا الموضوع، قد تكون الطريقة الأفضل هي اعتباره رحلةً استكشافية تبدأ بخطواتٍ وقراراتٍ صغيرة وواضحة تجاه أنفسنا، وقياس الأثر الذي تتركه هذه الخطوات والقرارات على حياتنا، ومن الأرجح أنه سيكون بإمكاننا من خلال ذلك، البدء بفهم مدى عمق هذه الرحلة، ومدى انعكاسها على نموّنا داخلياً وخارجياً.
على سبيل المثال، كثيراً ما نخوض في علاقات عاطفية تنتهي بالفشل وتتكرر بشكل متشابه. وفي وعينا لهذا النمط المتكرّر، أو بتأثير الألم الذي تصاحبه النهايات الفاشلة، قد نتخّذ القرار بالانقطاع عن العلاقات العاطفية لفترة معيّنة.
وخلال هذه الفترة قد نبدأ بتعبئة الفراغ الذي حدث في حياتنا، بنشاطات وأمور تثرينا داخلياً، وكأننا نجمّع الطاقة المبعثرة في الخارج ونعيدها إلى أنفسنا.
خلال هذه الفترة التي نسمح فيها لأنفسنا أن نتعرف على أنفسنا بكل تفاصيلنا، ستبدأ التفاصيل التي نحبّها ونعتني بها في أنفسنا بالانعكاس على محيطنا، وسيبدأ هؤلاء الذين لا يشبهوننا أو لا يشبهوا قيمنا وتطلعاتنا بالخروج من حياتنا لكي يُستبدلوا بعلاقاتٍ أقرب لهويتنا وحقيقتنا، وأقرب إلى تطلعاتنا وشغفنا وأحلامنا. وقد نجد من بين هذه العلاقات المثرية من نشاركه درب الحياة. وبغض النظر إن وجدناه أم لا، فنحن سنكون خلال هذا الوقت على علاقة أفضل مع أنفسنا، وسيكون الفراغ الذي بدأناه بتكوين المساحة لأنفسنا ممتلئاً باهتماماتنا وطقوسنا وسلوكياتنا الإيجابية مع أنفسنا.
بهذا المثال يمكننا استشفاف معنى وأثر تكوين المساحة في حياتنا، فما بدأناه باسترجاع طاقتنا لأنفسنا كوّن المساحة لنا بأن نكون أوعى وأكثر اتصالاً بحقيقتنا. وعن طريق تعبئة الفراغ بأمور تستهوينا وتثرينا وتزيد من وعينا لأنفسنا سنبدأ بالتأثير على محيطنا، حيث أننا عندما نكون أقرب وأكثر إدراكاً لأنفسنا ولحقيقتنا سنجذب من هم أقرب إلى حقيقتنا.
وهكذا، لكي نجذب من هم أقرب إلينا، علينا أولاً بفسح المجال، أو تكوين المساحة لقدومهم، عن طريق قطع العلاقات التي لا تفيدنا أو تثرينا، لأنه لا شيء سيدخل إلى حياتنا إن لم نكوّن له المساحة للحلول فيها. وفي النتيجة، نرى أن مدى اتصال هذه المساحة بحقيقتنا سيحدّد نوعية الأحداث والعلاقات التي ستملأ هذه المساحة.
لا يخفى عنّا أن هذه المعادلة ليست بالبساطة التي نتصور، فلكي نكوّن المساحة علينا أيضاً أن نفهم أنفسنا ونفهم السلوكيات المضرّة التي تساهم في تكرار الأحداث السلبية في حياتنا، وهذا بحدّ ذاته رحلة متواصلة نحاول فيها فهم جوهر الأمور.
في إدراكنا لجوهر علاقاتنا، وأثرها على حياتنا ونموّنا، ومدى انعكاسها في كل مجريات حياتنا، علينا أن لا نستاء من حقيقة وجوب تحمّل مسؤولية مجريات حياتنا، فبالنهاية نحن من جذب هؤلاء الأشخاص إلى حياتنا، ونحن من خضنا هذه التجارب حتى عندما كنا نعلم بقرارة أنفسنا أنها مضرّة لنا. ولا أذكر هذه الحقيقة لكي نجلد أنفسنا، بل لكي ندرك أن هذه التجارب حصلت لكي تعلّمنا عن أنفسنا، فنحن اليوم مختلفون عمّا كنا عليه بالأمس، والطريقة الوحيدة أمامنا للنموّ والتعلّم هي في خوض التجارب بسلبياتها وإيجابياتها.
كلُّ التجارب التي مررتَ بها هي التي صنعتك وأوصلتك إلى المكان الواعي الذي وصلت إليه اليوم، وبهذا الوعي بإمكانك في كل لحظة أن تختار مجريات حياتك، ولعلّ الآن هو الوقت المناسب لأقول لك أيها القارئ بأنه ليس هناك ما يعيبك في ماضيك أو في تجاربك أو في قراراتك، فكلّها تجارب تحصد من خلالها ما يساعدك في رحلة نموّك الروحي.
وفي هذه الرحلة ستدرك أنك لست وليد المجتمع، أو وليد أحكامه أو أفكاره أو معتقداته الثابتة، وأنك وليد نفسك، ووليد الكون المتحرّك، والكون وُجد ليَختَبر ويصنع التجارب بتضخّمه المستمر. وصنعك لتجاربك المستمرة وخوضك لها هو جوهر وجودك على هذه الأرض، وجوهر نموّك باتجاه نفسك.